يلحُ علي منذ أشهر ان اكون كما كنت ذات صيف بعيد .. يذكرني بفستان بعينه .. أخضر ربما .. أو أزرق سماوي .. مورد .. هو غير متيقن .. ربما كان «سادة» كما قهوتنا، التي لها مذاق خاص بعد أكلة منسف دسم .. وهما القهوة السادة والمنسف ماركتان اردنيتان بامتياز .. تحدث عن أيام العمر التي تطوى دون هوادة ولا توقف .. قال: «العمر يمضي، واليوم الذي يذهب لن يعود ...» ذكر أشياء عن الحب والفرح والبهجة. تشخص صديقتي بصرها نحو الأفق فيما هي تحدثني عن صديقها الرومانسي المولع بالحياة .. تتلفت يمنة ويسرة، كما لو أن أحاديث السعادة ممنوع على الجدران سماعها .. كما لو أن الشجن ليس لنا، والحبور ليس مهارة نتقن صناعتها. بكت صديقتي ضيق العيش، وشح الخيارات .. خانتها العبارة وفرت من حدقيتها الدموع ... «يريدني شجرة لا تسقط اوراقها في الخريف، يريدني أغنية لا تنتهي ولحنا لا يموت، يريدني جدول ماء لا ينضب، وقصة لا يمل الصغار النوم على صورها الطازجة، يريدني وردة لا تذبل، وفراشة لا تمل التحليق حول مكامن الضوء واسرار البهاء».كانت كما لو انها تشكي، او تطلب العون، او مجرد انها تبوح وترحل قليلا مما يثقل على صدرها لغيرها .. هربت من نظرات عيوني المحدقة بوجهها، قالت ان الهروب صار انجازها الوحيد، تهرب من مواعيد لقائه، ومن رقة صوته عبر الاسلاك والأثير، ومن أناقة حضوره الطاغي .. «أهرب من عينيه الصادحتين بالتين والزيتون وعشب الطريق، أهرب من صحوة الندى فيهما، ومن غجرية شكله الفوضوي، اهرب من نباهة الحب في روحه الغزيرة بالشوق والعطاء. أقدم لها قهوة بلا سكر، وقليلا من حبات البسكويت المحلى .. يدها المرتجفة تتناول حبة وتشيح بوجهها عن القهوة «يكفيني ما أذوقه يوميا من مرارات» قالتها معلنة أنها لن تمس فنجان القهوة المرة «لا أريده ..» اهدئ روعها .. «لا بأس عليك، اشربه عنك فمرارته صارت من اختصاصي». «أحلم ان اهرب الى غابة لا يعرفها الناس، فليصاحبني اليها ان اراد، او ليتركني اخشخش اوراقها الصفر لوحدي، تعبت من جلبة الاصوات، وارتعاشات الخوف، وبؤس الانتظار، تعبت من الف كذبة باليوم الواحد، ومن رصيد هائل من المبررات، والتبريرات، سئمت، يئست، تسللت خطوط الزمن الى وجهي وقلبي وروحي وعقلي ويقيني، صار الشك صديقي، والغضب السريع عنوان علاقتي به والناس والاشياء، لا أفكر بهشاشة العظام قدر تفكيري بهشاشة الوضع القائم بيننا ..!! الوقت يتدلى كعنقود شوق حامض من سقف السماء، والصيف يسترق النظر من النوافذ الخلفية لربيع يلفظ أنفاسه الاخيرة، ورغم أني لم أكن يوما من المولعات بالصيف وقيظة وغثيان الروح تحت لهيب نهاراته الحارقة، الا أن صديقتي باحاديثها عن صديقها الساكن داخل أوجاع عمرها، جعلتني اعيد النظر بموقفي من شهر القمح والعنب والتين، وجعلني حزنها الكئيب أقرر ان اعود فراشة في فصل يطرق الأبواب بقوة وحماسة وصخب، سأرتدي فستاني الأحمر، لا أدري، لعله الازرق «التركواز» سأرتدي كل فساتيني بكل ألوانها المشعة بالأمل .. سأخرجها من أوكارها القديمة، سأنفض عنها غبار عشرين .. ثلاثين .. خمسين عاما .. سأنفخ فيها من روحي ورغبتي الصادقة بعنوان جديد لأيامي المقبلة. ظلت القهوة المرة على حالها فوق الطاولة، تركناها كلانا صديقتي وأنا .. صديقتي الباحثة عن جواب لسؤالها حول أنواع الشجر في الغابة التي لا يعرفها أحد ..!!.