تكتسب الكتابة الأدبية للأطفال جدواها، بقدر تلبيتها لاحتياجات الأطفال المعرفية والنفسية والعاطفية والجمالية والترفيهية، وبقدر نجاحها في إحداث قدر من التوازن في علاقتهم بثقافة الصورة التي تحملها إليهم، أجهزة الإعلام الحديثة، التي تهدد الكتاب المقروء وتمعن في إبعاد الطفل القارئ عنه على نحو خطير.
انطلاقا من ذلك، ومن معاينتي لعدد من النصوص الشعرية والقصصية المكتوبة للأطفال في فلسطين وغيرها من البلدان العربية، فقد لاحظت أن ثمة طغيانا للوظيفة التوجيهية لأدب الأطفال على حساب الوظائف الأخرى التي لا تقل أهمية عن الوظيفة المذكورة ، بل إن هذه الوظيفة التوجيهية تتجلى في عدد من النصوص على نحو مبالغ فيه ، بحيث تبدو فيها نزعة الوعظ والرغبة في التلقين مخلة بشروط العمل الأدبي وبجمالياته، وتفضح من وجه آخر، ما تواطأ عليه الكبار من فهم خاطئ مؤداه أن الطفل كائن ضعيف مفتقر الى من يمد له يد المساعدة في كل شئ، فلا يلبث هذا التواطؤ أن يستفحل الى أقصى حد، مما يولد حالة من الاستهانة بذكاء الطفل، والمجازفة بتقديم نتاجات أدبية مختلفة، من دون تبصر في حقيقة موقف الطفل منها، ومدى تقبله لها، ومن دون اعتبار لمدى تلبيتها لاحتياجاته العاطفية والنفسية، أو إدخال المتعة إلى نفسه أثناء القراءة، وهو الأمر الذي يغفله بعض كتاب الأطفال، فيكتبون للطفل أفكارهم ورؤاهم التي لا تتلاءم مع إدراكه الغض، ويقدمون له مشاعرهم وأحاسيسهم التي لا تتطابق مع مشاعره وأحاسيسه، للفارق الكبير بينهم وبينه في العمر والتجربة والثقافة والإدراك.
إن لدى الأطفال قدرة على فهم الأشياء والظواهر المحيطة بهم بطريقتهم الخاصة، وهو أمر قد يبدو مفاجئا للكبار في بعض الأحيان. وللتدليل على ذلك أسوق بعضا من نصوص بالغة التكثيف، مفاجئة، كتبها أطفال، وجمعتها الكاتبة «نانيت نيومان» في كتاب عنوانه «كلام قليل»، أقتبس منه ما يلي: كتب لوري (ست سنوات): «الأطفال يبكون في العتمة، لأنهم يعتقدون أنهم لم يولدوا بعد». وكتبت تينا (ست سنوات) : «الطفل المولود حديثا لا يقدر على الكلام، إنه يكتفي بالتفكير طوال النهار». وكتبت نورا (سبع سنوات) «إذا لم تحبي طفلك، فلن يأتي لزيارتك حينما تصبحين عجوزا». وكتب بيني (خمس سنوات): «بكت أمي في أول يوم لي في المدرسة. لذلك، كنت مضطرا إلى العودة بها إلى البيت».
ولتجنب نزعة الوعظ والإرشاد والمباشرة في التوجه إلى الأطفال، ربما كان من المناسب التذكير بقصة «بيبي ذات الجورب الطويل» للكاتبة السويدية «أستريد ليندغرين» ، لتبيان ما يلحقه الإصرار على الوعظ المباشر والتلقين من قمع لخيال الطفل، ومن تدجين لفضوله المعرفي، ومن خلق قيود جديدة تكبله باسم الحرص عليه ، وتنشئته على نحو صحيح .
ففي هذه القصة المتميزة تتجنب الكاتبة نزعة الوعظ المباشر والتلقين، وتسمح لبطلة قصتها بحرية الحركة والفوضى، وتشجعها على كسر المألوف، وعلى القيام بمغامرات جديدة ، وعلى ارتكاب مخالفات صغيرة ، من دون أي تدخل منها لنقدها أو إدانتها إلا على نحو غير مباشر ، وبأسلوب غاية في الذكاء، فالطفلة «بيبي» (اسمها جنان في الطبعة المترجمة إلى العربية) ليس لها أب ولا أم . وهي تحبذ ذلك ، لأنه ليس هناك من يأمرها بأن تذهب للنوم في المساء، ولاسيما عندما تكون في قمة نشاطها. فهي تفعل دائما ما تريد، وحينما تخفق البيض لتحضير الفطائر لها ولصديقيها، فإن بيضة تنكسر على رأسها ولا تكترث لذلك، بل تقول «لقد سمعت دائما أن صفار البيض مفيد للشعر»، وحينما تأكل «فهي تستلقي على الطاولة، وتضع الطعام على الكرسي»، حيث «لا يوجد هناك من يطلب منها أن تجلس بطريقة صحيحة»، «وعندما تنام «بيبي» تضع قدميها على الوسادة ورأسها تحت الغطاء . إنها تفضل النوم بهذه الطريقة. ولا يوجد هناك من يأمرها بألا تفعل ذلك»، وفي حين «قامت «بيبي» بترتيب طاولة المطبخ بشكل جميل»، فإنها شربت الشوكولاتة السائلة ثم «قلبت الفنجان على رأسها كأنه طاقية» ولكنه لم يكن فارغا تماما ، فسالت بقايا الشوكولاتة على وجهها.
إن هذه القصة وهي تمارس تحريضها ضد المألوف، استجابة منها لرغبات الأطفال في المشاغبة والعبث، لم تتوقف عن تكرار ثيمة واحدة بعينها تؤكد على أن الطفلة تعتمد في كل شئ على نفسها، وتلك قيمة تربوية ما كان يمكن لها أن تصل إلى قرارة نفس الطفل إلا «بالتجرؤ على الواقع ، بكسر قيوده ، وتجاوز حدوده ، وإعادة تركيب العلاقات بين عناصره ، أو إعادة استخدام أدواته. ولا يتاح ذلك إلا من خلال الانطلاق في الخيال الخلاق الذي يتجاسر على جمود الواقع ، ويتجاوز صلابته» على حد رأي أحد النقاد العرب.
إن عالم الأطفال ليس سهلا، والدخول إليه يحتاج إلى تحصيل معرفي وخبرة حياتية ومراس أدبي. ومن دون شك، فثمة مفاجآت غير قليلة في هذا الميدان، فحينما أقرأ بعض صفحات من كتاب «هاري بوتر» للكاتبة «جي.كي. رولينغ» أو أشاهد بعض مشاهد متلفزة منه، فإنني لا أجد متعة في المتابعة، ولا أفكر بكتابة مثل هذه الكتابة الممعنة في السحر والغرابة والمغامرات، لاعتقادي أن ليس هذا ما يحتاجه الأطفال في بلادي وفي العالم سواء بسواء، ومع ذلك، فإن ملايين النسخ قد بيعت من هذا الكتاب، الذي أثار اهتمام أطفال العالم! وهذا بدوره يطرح من جديد أسئلة عديدة عن: كيف ندخل إلى عالم الأطفال؟ وبأي أسلوب نخاطبهم؟ وماذا نكتب لهم؟
