دخلنا في العراق مرحلة جديدة منذ ان تفاءلنا بعد الثلاثين من كانون الثاني واوجه التغير التي طرأت عليه تظهر في كل مكان.
اما الآن، فيتحدث كل جنرال اميركي خرج من بغداد بشيء من التردد، والنسبية، والكآبة، بينما في الوطن، اصبحت الارقام التي تخرج عن البنتاغون تثير الخوف، الجيش، والحرس الوطني التابع للجيش، قد لا يتمكنان الا من تجنيد 75 بالمائة من اهدافهما في العام القادم وذلك في احسن الاحوال.
ذكر اندرو كوهوت من مركز ابحاث بيو هذا الاسبوع ان الغشاوة بدأت تنقشع عن اعين الشعب الاميركي حول العراق.
«بدأنا نرى المزيد من الناس يقولون (اخرجوا القوات من العراق)، لقد اخذت صورة تمرد لا يكل او يمل في العراق، قبل ستة اشهر، كان ما يعادل 65% من الاميركيين يقولون ان الحرب حققت اهدافها مقارنة مع 46% حالياً يقولون ذلك».
يقول المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن ان الحاجة تقتضي بقاء القوات الاميركية في العراق الى ست سنوات اخرى.
لكن، على الرغم من المؤشرات السطحية هذه بوجود مشاكل مرتقبة، تستمر ادارة بوش بعنادها في رفض الطرح المبطن: ان الانتحاريين متدينون متعصبون يجب التغلب عليهم هناك، كيلا يقوموا بمهاجمتنا هنا، لم يتحرك هذا المنطق قيد أنملة في العامين الماضيين: فهم اصوليون اسلاميون متوحشون، دافعهم معتقداتهم الدينية التي يمكن ان تنتشر في الشرق الاوسط كله لو لم نقم نحن بالتصدي لها.
المشكلة الآن هي ان المنطق الذي يتحكم في كافة الاخطاء التي ادت لتورطنا في العراق وبقائنا فيه قد انقلبت لسوء الحظ رأساً على عقب، واستناداً على تحليل قام به عالمان ألْمعيّان غير عقائديين، يهز الارض هزاً، فان وجودنا العسكري في العراق يؤدي اليوم تلو الآخر الى زيادة اعداد الانتحاريين، وسيستمر في ذلك ما لم نقم بتغيير سياساتنا.
روبرت ايه بيب، استاذ مساعد في العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، يترأس ايضاً مشروع شيكاغو حول الارهاب الانتحاري، وقد درس مع فريق من المحللين قضية الانتحاريين في سري لانكا، حيث بدأوا، ثم في فلسطين، ثم لبنان، ثم العراق، ثم جمع قاعدة معلومات، هي الاولى من نوعها، لكل انتحاري ولكل هجوم حول العالم من عام 1980 الى عام 2003، وقد خرجت ابحاثه بنتائج ليس لها مثيل.
اولاً: لم يتوصل الى ان الانتحاريين متعصبون او اشخاص غير عاديين اصلاً. فالاهداف السياسية للانتحاريين، وليست الوسائل، غالباً ما تكون وسطية واكثر مما يدركه المراقبون»، كما كتب في كتابه الاخير (الاستماتة من اجل الفوز)، هم يعكسون في العادة مطالب وطنية عامة وواضحة في مجتمعاتهم».
ثانياً: خلافاً لما تعتقده هذه الادارة، فان الدين يلعب دوراً صغيراً جداً من مضمون دوافعهم وقد شرح لي بيب عندما التقينا مؤخراً في جامعة شيكاغو ان «العامل المشترك لكافة الهجمات الانتحارية هو هدف علماني واستراتيجي واحد: لارغام الديمقراطيات الحديثة على سحب قواتها العسكرية من اراض يعتبرها الارهابيون اوطانهم. اما الديانة فمن النادر ان تكون السبب الحقيقي».
ثالثاً: ان فكرة الرئيس المحببة بأن تغيير الحكم ودمقرطة البلاد ستخفف من الهجمات الانتحارية ومن اشكال اخرى من العنف، قد تم دحضها تماماً، في الحقيقة كما يقول بيب، «محاولة لتحويل المجتمعات الاسلامية من خلال تغيير الحكم من الممكن ان تزيد التهديد الذي نواجهه، ان اساس الارهاب الانتحاري هو الاحتلال الاجنبي والتهديد الذي يمثله وجود عسكري اجنبي على اسلوب الحياة».
«قد يكون وضع عشرات الآلاف من القوات المحاربة الاميركية في شبه الجزيرة العربية من 1990 الى 2001 هو الذي حث على الهجمات الانتحارية ضد الاميركيين، بزيادة مقدارها من خمسة الى عشرين ضعفاً، لذا، كلما بقيت القوات الاميركية فترة اطول في العراق والخليج الفارسي بصورة عامة، كلما ازداد احتمال تكرار الحادي عشر من ايلول».
وعالمة ومحللة اخرى نشرت عملاً استثنائياً وسبقاً حول الانتحاريين، هي رونا ام فيلدزر من واشنطن، وعالمة نفس سريري، ومؤلفة كتاب «الاستشهاد: علم النفس، والدين، وسياسة التضحية بالنفس»، وجاء بعد 35 عاماً من الابحاث حول الارهاب في احد عشر بلداً، وقد خرجت فيلدز بذات الاستنتاجات.
«الامر الاساسي هو ان الارهاب خيار يتوصل اليه الناس»، قالت لي فيلدز. «انه ليس مرضاً، وهو ليس تديناً فقط، انه خيار يتخذ نتيجة للشعور بأن هناك تهديداً على الجماعة، انها عدالة عقابية، ثأر، وليس مرضاً نفسياً، في الحقيقة كلمة «الشهادة» تعود اصلاً للدين المسيحي، وقد اخذها المسلمون عنهم نتيجة لاحتكاكهم بالمسيحيين».
اذا كانت هذه الاستنتاجات حقيقية، وهي بالتأكيد تبدو هكذا لي ولآخرين عملوا وغطوا الشرق الاوسط، اذن فنحن لسنا خونة غادرين نتيجة ذهابنا للعراق، لكن ينظر لكل دقيقة نقضيها فيه، كغزاة لأرض اجنبية ونحن نشكل عنفاً خطراً وفاعلاً ضدنا وللمعتدلين من العراقيين الذين نعتمد عليهم، من الغريب ان زعماءنا لم يبدأوا حتى بتخيل هذا.