في هذه الحلقة من حوار الاجيال، اختلف نسق الكتابة، واختلفت طريقة العرض اذ ان شخصية هذا العدد لها نمطها الخاص في الحديث، ولها طريقتها و افكارها التي فرضت علينا ان نكتبها ونعيد صياغتها بما يضمن حفظ هذه الافكار وعدم الانزياح عنها مع حفظ منهج «حوار الاجيال».
الشيخ يوسف عتوم ابو كامل، عالم ازهري وهو ذو تجربة واسعة وعلم وتقى ودين، كنت قد اخذت موعداً معه لاجراء هذا الحوار واذا بي احمل عبء محاولة استنطاق ذاكرة تختزن كثيراً من لحظات الزمان الاول وهي محاولة صعبة مع الشيخ الازهري الذي كان يردد غير مرة «لا شأن لي بدنياكم».
علم وعمل
بدأ حديث الشيخ يوسف قائلاً:
«ولدت في زمن الدولة التركية، وابلغ من العمر (110) سنوات وكنت في اول حياتي ارعى الغنم، ولكن الله سبحانه وتعالى حبب الي العلم والقرآن والعمل الصالح، وما اخذت افكار جيلي من الشباب في ذاك الزمان وما حملت افكارهم ولا حلمت بأحلامهم. بل كانت لي طريق اخرى وسبيل مختلف، وقد طلبت من اهلي ان يعلموني فأبوا، وكانت البلاد جاهلية والناس لا يعرفون من الدين الا اسمه ولا من القرآن الا رسمه، فحفظت القران الكريم وانا ارعى الغنم واكملت دراسته على يد شيخ البلد (الشيخ شكري)، بعد ذلك سمعت ان في الشام مدرسة علمية اسلامية فاردت ان اذهب اليها فرفض اهلي ذلك، فهربت ليلاً حتى وصلت الشام التي كانت تسيطر عليها فرنسا، فطلبت العلم فيها بين شيخين الشيخ علي الدقر، والشيخ بدر الدين الحسيني وبقيت مدة (12) سنة، ولما اكملت الدراسة هناك ذهبت الى مصر للدراسة في الازهر الشريف عدت بعده الى بلدي...
حججت (20) حجة و(40) عمرة الى بيت الله الحرام وفي اول مرة اردت فيها الحج ذهبت على الجمال واستغرقت رحلتنا 40 يوماً للمدينة و(10) ايام منها الى مكة.
التحقت في التربية معلماً عام (1353هـ) وتقاعدت من التربية ، وما زلت اخطب خطبة الجمعة في مسجد البلدة، منتظراً خروجي من الدنيا، وقد هيأت قبراً منذ عشر سنوات وجهزت كفناً. وكتبت وصيتي وعلقتها فوق رأسي الى ان يتوفاني الله امرت ابنائي فيها بتقوى الله والعمل الصالح، وان يحضر جنازتي العلماء اذا تيسر، وان يغسلني احد اهل العلم وان لا تبكي علي باكية ولا تنوح نائحة.
في ذاك الزمان... كان الناس في جهل ، بحيث عمت المشكلات بين الناس، اما اليوم فمع انتشار العلم والمعرفة والثقافة ازداد وعي الناس وازدادت قدرتهم على التفكير فثمة مسافة حضارية بين زمان لم تكن ترى فيه الناس يصلون ويعبدون الله الى زمان حاضر ترى مظاهر الدين والايمان والعمران والتقدم.
وعي ثقافي
يقول الشيخ يوسف ابو كامل:
على خلاف اهتمامات الشباب في زماني الذين كانت تلهيهم الملهيات وتغريهم الحياة اهتممت بالعلم والمعرفة وزيادة ثقافتي، فقرأت اكثر من الف كتاب في مختلف صنوف العلم والمعرفة (الفقه والتفسير والحديث ، واللغة والادب والتاريخ....).
ولدي مكتبة زاخرة بالكتب ينوء بحملها اثنان من الجمال، وفوق ذلك لا اقول اني عالم، فمن قال علمت فقد بدأ جهله.
وفي زمان كان الناس يفتخرون بالعشيرة والقبيلة والشباب تتملكهم العصبيات والحمية، افتخرت بالعلم والقرآن الكريم... وان احب شيء الي العلم وابغض شيء الجهل ، واليوم لا تمر علي ليلة او ينقضي نهار الا واقرأ كتابا او شيئاً منه.
لقد اخذنا الشيء الكثير عن الغرب، في عصرنا الحاضر، فلا مانع من ان نأخذ عنهم العلم والمعرفة ومخترعاتهم وما وصلت اليه عقولهم، لكن ان نقلدهم في القيم والعادات والتقاليد فهذا هو المرفوض.
ما يجب ان نحرص عليه هو ان تكون لنا شخصيتنا العربية والاسلامية وان نعتز بديننا وعلمنا وثقافتنا ، وعلى الشباب ان يكونوا عند حسن الظن بهم فهم المعول عليهم ومستقبل الامة، وعليهم ان لا يأخذ عقولهم اللهو والدندنة، فإن اكبر النكبات تلك التي تصيبنا في الشباب.
فمع ان الشباب اليوم هم افضل من شباب الجيل الاول الا ان ثقافتهم سطحية ووعيهم ليس كافياً.
حكمة السنوات الـ(110)
سألت الشيخ الازهري الورع التقي لقد امد الله في عمرك الى هذه السنوات فكيف عشت حياتك: قال عشتها في تقى وايمان وحب لله وللعلم ومارست الرياضة الدينية في كل تفاصيل حياتي فلم اكثر الاكل ايماناً بقول النبي الكريم (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). وقد اثبت العلم الحديث جدوى هذا التقسيم النبوي.
وانا ايضاً لا آكل حتى اجوع، وان اكلت فإنني لا اشبع، ومن الرياضة الدينية (العمل) فثلاثة مهلكة للعبد الفراغ والشباب والمال.
اما حكمتي فهي (التقوى في اربعة ، الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضى بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
وحكمتي ايضاً قول الشاعر
لا تفتخر بالثياب الفاخرة
واذكر عظامك حين تبلى ناخرة
واذا رأيت زخارف الدنيا
فقل لبيك ان العيش عيش الآخرة
واخيراً اقول انني لم اختلط بالدنيا ولم اسعَ اليها، واكتفيت منها بعشرة ابناء ذكور وعشر اناث ومات عشرة وهم صغار.
اما ا بنائي فهم يختلفون عني بحكم اختلاف العصر والبيئة ، فكنت اريد لهم ان يدرسوا مثلما درست في الازهر الشريف الا انهم اختاروا ان يدرسوا في الغرب فكان لهم ذلك ولم اجبرهم الا انني نصحت ووجهت.