حين يدور الحديث عن إنطلاقة جديدة للدراما الأردنية فلا بد من الإنتباه بجدية إلى الرموز الإبداعية المؤهلة لضمان نجاح مثل هذه الإنطلاقة، وخصوصاً في حقل التأليف الدرامي الذي سيبنى عليه المسلسل الأردني فنياً، وبما يحدد هويته وانتماءه ثقافياً.
ولقد سبق وتناولنا على وجه العموم الصناع الحقيقيين في حقل الدراما العربية تأليفاً واخراجاً، وذكرنا من بين هؤلاء عددأ من صناع الدراما الاردنية ومنهم جمال أبو حمدان الذي يحتاج إلى وقفة لتقديم تجربته الدرامية.
أسهم جمال أبو حمدان،المولود عام 1944، ومنذ انطلاقته الكتابية الأولى، عام 1969 مع «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» في التأسيس الابداعي لمرحلة أرقى للقصة القصيرة الاردنية، حيث قدم بعدها: «مكان أمام البحر» و«مملكة النمل» و«البحث عن زيزيا» و«نصوص البتراء».
كما اختيرت روايته أو قصته الطويلة «شرق القمر غرب الشمس» لانتاجها في أول فيلم سينمائي أردني بمناسبة عمان عاصمة للثقافة العربية 2002، وكرست وزارة الثقافة يوم المسرح العالمي 2001 للاحتفال بتكريمه كرائد للمسرح الأردني، وكان ابو حمدان قد حصل على جائزة الدولة للإبداع الأدبي (مسرح) وجائزة رابطة الكتاب للمسرح، وللقصة، وجائزة أفضل تأليف مسرحي (مهرجان المسرح الأردني الخامس)،جائزة أفضل تأليف مسرحي (مهرجان مسرح الشباب). وقد بدأت اسهاماته في حقل التأليف المسرحي حين كتب «المفتاح والجراد»، ثم تابعها مع «ليلة دفن الممثلة جيم» و«الأيام والاثام» و«القضبان» وتعددت اسهامات «أبو حمدان» فكتب عدداً من الروايات: «الموت الجميل» و«نجمة الراعي».
فكان أن نال جائزة اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمان عاصمة للثقافة العربية 2002 في مجال الرواية. كما أسهم في الكتابة للأطفال وحاز على جائزة أفضل كتاب لأدب الطفل في عام الطفل الدولي.
من هنا فحين نبني رهاننا على دور متميز لـ (أبو حمدان) في حقل الدراما التلفزيونية فلأنه، إلى جانب ما ذكرنا، صاحب تجربة مديدة في هذا المجال حيث كتب أعمالاً مرئية تلفزيونية تزيد عن خمسمائة ساعة درامية بثت من محطات التلفزيون العربية. ومنها حكاية شهرزاد الأخيرة (في اللية الثانية بعد الألف) التي يعاد بثها الآن على التلفزيون الاردني. وكذلك مسلسل «الطريق إلى كابل» الذي أوقف عرض بقية حقاته من الفضائيات العربية كلها، وبما يؤشر الى المستوى البائس من الحياة الديمقراطية في بلادنا، ليس فقط بسبب ذاك الساقط علينا من مقصات ومقاصل الرقابات الرسمية العربية، بل وأحياناً من تلك المنفلتة علينا من ظلمات كهوف تخلفنا الشعبي.
لقد أكدنا مراراً أن امتياز الأردن الثقافي إنما يتجلى أساساً بطابعه العروبي وتواصله الحميم مع تاريخ الأمة وتراثها الشعبي، من هنا لم تكن صدفة أن أجمل ما قدمناه من دراما هو ذاك المتصل بهذا الحقل التاريخي والتراثي، ويكفي فقط أن نشير إلى الخنساء وعروة بن الورد وطرفة بن العبد وشجرة الدر والصعود إلى القمة وصلاح الدين الأيوبي وصقر قريش وربيع قرطبة، لوليد سيف، ومسلسلات «ذي قار»، «الحجاج»، «امرؤ القيس»، «زمان الوصل»،وشهرزاد لجمال أبو حمدان.
إن سر امتياز وانتشار النص التراثي والتاريخي عموماً هو وجود هذا المشترك الوجداني والمعرفي بين طرفي المعادلة الإبداعية، أعني المرسل والمتلقي، وكذلك ما هو راهن بينهما.. فحين يذهب المبدع الحقيقي إلى الماضي سواء أكان تاريخاً رسمياً أم تراثاً شعبياً فإنه يفعل ذلك لأنه مسكون بهموم الحاضر وهواجس المستقبل، التي تعني بالطبع الجمهور المتلقي.. ومثل هذا الهاجس المعاصر هو الذي سيحدد بالضرورة زاوية التناول وأساليب المعالجة، وبالتالي فهو الذي سيبني الوقائع والشخصيات، ويدير الحوار، ويشحن العمل الفني بالرموز والدلالات الموحية التي تجعل المتلقي يتفاعل مع مضامين الخطاب الإبداعي الذي توخّاه المؤلف وكاتب السيناريو والحوار، أولاً، ثم فريق العمل مخرجاً ومنتجاً وممثلاً وحتى مصوراً ومؤلفاً موسيقياً.
إن المادة الاسطورية التراثية، كما سبق وقلنا، هي بالأساس «منجز عام للمخيال الشعبي، عبر مختلف الأقطار والعصور العربية، ولهذا تراها تشكل حافظة شعبية لمنظومة كاملة من القيم والمفاهيم والسلوكيات، ولكن ليس في حالة ثبات بل تغير وفق اشتراطات الزمان والمكان.. ومن هنا فهي الى جانب ما تقدمه من متعة وتسلية، عن طريق الراوي أو الحكواتي، وحتى عن طريق الجدات الحكاّءات، فإنها تقدم الموعظة وتحرض على العمل والنضال، خصوصاً اذا ما لحق بالناس جور وقهر أو تعرضت الاوطان لعدوان».. وهذا ما عالجه بامتياز جمال أبو حمدان في مسلسله شهرزاد او الليلة الأخيرة (الثانية بعد الألف).. فحين يذهب جمال أبو حمدان الى الماضي فلكي يؤشر الى الحاضر، ويدلنا على المستقبل.. فهو بالطبع ليس مسكوناً بحكايا السندباد وعفاريت الجان وحكاية المارد الذي يخرج من مصباح علاء الدين، انه مسكون، من خلال حكاية شهرزاد الاخيرة، بالمخاطر التي تحيق بالوطن، من الداخل والخارج، فها هي شهرزاد، مثل زرقاء اليمامة، تنبه شهريار الى الخطر الداهم الذي الذي يحيق بالوطن (كرمان) على يد الأخ الطامع شهرمان، إن الخطر الخارجي لا يتأتى دائما من عدو أجنبي بل يتمثل كثيراً في الفتن والاطماع الداخلية بين الأخوة، وهذا ما سبق ونبه شهريار له الوزير ريان (والد شهرزاد) فكان جزاؤه الطرد من القصر، وها هي شهرزاد تعاود الكرة، رغم ان العقاب سيكون هذه المرة، رعب انتظار قطع الرأس كل ليلة، على يد مسرور السياف، فيكون أن تتكرر اللازمة:
«يكتمل القمر بدراً..ثم يغيب.. وتنقضي الف ليلة وليلة، بين السيف والعنق.. وأبقى أنا شهرزاد حية، لأروي في الليلة الثانية بعد الالف.. الحكاية الاخيرة».
وكما أشرنا في مقالة سابقة حول هذا المسلسل فلقد «تكاملت مقاصد هذه القراءة الراهنية للتراث التاريخي مع نص (حمداني) متميز ومنحاز دائماً للتقدم وللمرأة/ الخصب والتجدد والحياة، وقريباً دائماً من الحياة حيث ابتعد، عن الخيالية الفانتازية في حكايات ألف ليلة وليلة التي ترويها شهرزاد لشهريار للتركيز على حكايتهما هما، حيث تناولها عبر مفهوم علاقة الرجل بالمرأة والسلطان بشعبه».
إن شهرزاد عبر هذا العمل تنفذ من المحنة التي يواجهها شهريار كرجل وكسلطان الى المحنة التي تواجهها السلطنة بكاملة ومن ضمنها السلطان شهريار.
أما شهرزاد التي كانت قريبة من الناس، وتمثل ضمير شعبها وتحصن نفسها بالمعرفة، فقد عزمت، بعد سلسلة من مآس وفواجع قتل العذارى، وبعد هرب معظم أهالي السلطنة ببناتهم، على أن تقدم نفسها عروسا للسلطان شهريار وهي تحمل في وجدانها يقينا بأنها قادرة على تخليص السلطان من محنته، وفي ذات الوقت تخليص أهل السلطنة من كابوس الرعب الذي يعيشونه.
إن مثل هذا النص الحمداني أو ما يشبهه من أعمال وليد سيف أو محمود الزيودي أو غيرهما من كتاب الدراما، يمكن أن يسهم في توفير واحد من النصوص المهمة للدراما الأردنية، خصوصاً إذا ما تواصلت العملية الإنتاجية الأردنية، وبما سيخلق المناخ الملائم للمزيد من الولادات الإبداعية في حقل الكتابة كما في بقية الحقول الدرامية.
وأمام الدراما الأردنية وكتابها، إلى جانب ما تمتلكه من تاريخ واسع ومديد الكثير من سير القادة والأبطال، والأساطير الشعبية، كما في سير الظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة ومحمد البطّال وسيف بن ذي يزن وعنترة والسيرة الهلالية.. الخ.. التي يمكن العودة اليها مرارا ليجري التمثل بها، بما يفيد زماننا.
ومثل هذا الدور الذي لعبه جمال أبو حمدان وزملاؤه سبق ولعبه الحكاؤون والرواة القدماء، في توظيف التراث لاحتياجات زمنهم، كل حسب رؤيته وغايته:
إنها دائما معركة استحضار الماضي من أجل المستقبل. ولعل ذلك سبب استحضارنا لكاتب مثل جمال أبو حمدان ونحن نتحدث عن الانطلاقة الثنية للدراما الأردنية.
[email protected]