باستثناء رأس النبع الذي انطلقت منه أول ثورة من ثورات الربيع العربي،وأقصد بذلك تونس الخضراء، فإن ما يجري في بلدان الربيع المذكور من فوضى وفلتان واضطراب حبل الأمن والأمان،حيث بات المواطن غير مطمئن على دمه وماله وعِرضه جرّاء سيطرة الميليشيات الهائجة على الحيّ والشارع، والزنقة والزقاق، وما يرافق ذلك من عنف مجتمعي، وإرهاب فكريّ،كل ذلك يجعلنا نتوقف أمام الحكمة القائلة:العاقل من اتعظ بغيره، وإذا كان كل ما يجري اليوم في البلاد العربية غير كافٍ لالتماس العبرة التي تُحفّزنا للتفكير بأحوالنا، فسيأتي علينا يومٌ لا نجد فيه بين ظهرانينا عاقلاً واحداً يقول لنا :كفى.
إنّ ما يجري تحت سمعنا وبصرنا من عُنفٍ جامعي ومجتمعي_ وإن بدا حتى الآن مجرد جيوبٍ معزولةٍ هنا وهناك_إلاّأنّه كافٍ لأن يشكّل لنا نذير شؤمٍ،وجرس إنذار يقرع في الصباح والمساء ليقول لنا:هيبةُ الدولةِ أولاً وقبل كل شيء. وعندما نقول هيبة الدولة، فهذا يعني سيادة القانون،ولا تتأتى هذه السيادة إلا للدولة القوية، فهي وحدها القادرة على ضمان حرية المواطن ومظلة الوطن الديمقراطية، الدولة القوية هي المؤهلة لحماية كلِّ حراكٍ شعبيّ، وإصلاح سياسي، واقتصادي،وعند الضرورة إنقاذه من أيدي الغلول والانقضاض على مكتسباته،وبعكس ذلك فإن الدولة الضعيفة هي التي تجد نفسها في النهاية تضرب وتقمع، وتصادر الحريات، مدفوعةً بضعفها، وخوفها وارتباكها،وهذا ما لا نريده لهذا البلد الذي شاء قدره أن يبني مؤسساته الدستورية ما بين سيف الصحراء وسيف الأعداء.
لقد أطلقنا ذات يومٍ شعار «الأردن أولاً»وهتفنا كلنا بالروح بالدم نفديك يا أردن.،فكيف لنا أن ندرك شرف هذا الفداء، إذا كان البعض منا في نفس الوقت لا يوفر مسماراً واحدا إلا ليدقه في خاصرة الوطن، حتى لو كان هذا بسبب الغِرّة والجهل ؟نفعل ذلك من خلال مرابطتنا في ثغور الجاهلية الأولى،أقول الجاهلية ولا أُعني «العشائرية الأردنية»التي كانت وما زالت بمعانيها الأصيلة ومنابعها الصافية الحصن الحصين لهذا البلد وصمام الأمان لسلمه الأهلي،وما أعمال الشغب والعنف المجتمعي التي نشهدها اليوم إلا النسخة المزيفة التي نصدرها تحت عنوان الولاء للعشيرة، والعشيرة منها براء.أقول كيف لنا أن نفعل الشيء وضده ولا نتوقع أن يخرج علينا من يتهمنا بانفصام الشخصية؟
إنّ المنتجات الجديدة للعنف المجتمعي بما في ذلك قطع الطريق،وإشعال الإطارات في الساحات، لا تعكس إلاّ الخواء الفكري والتخلف الثقافي لمن يقومون بها وحدهم، لكنّ هذا لا يعفينا من مسؤولياتنا الوطنية والأخلاقية التي توجب علينا أن نقف جميعا جبهة فكرية وثقافية وإعلامية واحدة في وجه العنف، والعبث، والبطر الحراكي الذي لا يمت بصلة للحراك الوطني الصادق بكل ما حققه من نتائج إيجابية.
،لقد بات المشهد العام غير مريح، وإذا كان لنا أن ننهض بمسؤولياتها لتغيير هذا المشهد النشاز،فإنّ سلطات الدولة مطالبة هي الأخرى أن تعيد الثقة للمواطن،وأن ترفع الغبن عن كل من يجد فيه سبباً يبرر له العبث بمقدرات الوطن، ولا يتأتى ذلك إلا بإفشاء روح العدالة وتكافؤ الفرص بين الناس.